بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
مثل الفتنة
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ
شرح المثل
نحن أمام مثل تتجلى فيه صورة الماء النازل من السماء حتى تفيض به الوديان . . كل واد يحمل بقدره. فهذا واد عميق فيمتلأ امتلاء وذاك واد ضحل لا يمكث فيه الماء، إنما يمر عليه مرورا ولا يمكث فيه. . ثم إن السيل يحمل في طريقه زبدا رابيا، مما كان في الوديان من أوساخ ورواسب، فيظهر الزبد على السطح فترة فيغطي على الماء، فإذا رأى الرائي فإنه يرى ذلك الزبد الفوار الجياش على السطح. ثم يستقر السيل بعد فترة فإذا الزبد المنتفش الفوار الجياش قد اختفى . . ويبقى الماء مستقرا في الأرض صافيا رائقا، فينتفع به الناس..
أما المعنى الأصلي، المراد التمثيل له فهو هكذا: أن الله ينزل من السماء هدى ربانيا على القلوب البشرية - الهدى يقابل الماء ، والقلوب تقابل الوديان - فيأخذ كل قلب حسب طبيعته. قلب يمتلىء بالإيمان، وقلب ينزل عليه الهدى فيطرده فلا يتلبث فيه. ثم إن الباطل الذي لا يؤمن بالله ينتفش ويفور فترة من الزمن في صراعه مع الحق النازل من السماء . . ثم لا يلبث أن يستقر أمر الله في الأرض، فإذا هذا الباطل المنتفش قد دمر الله عليه، فذهب بددا بعد أن كان يبهر الناس بقوته الزائفة، ويبقى الإيمان مستقرا ممكنا في الأرض ..
وفي المثل الثاني صورة أخرى يتملاها الخيال وينشط لها ويعقد المقارنة بينها وبين الاصل. فهنا ذهب ثمين أو فضة مما يستخدم في الحلي والزينة . . ولكنه لابد أن يفتن في النار، أي يوقد عليه حنى ينصهر فينفصل عنه الخبث الذي كان محتويا عليه أو كان مصاحبا له . . ويتميز هذا عن ذاك .. ولكنه في أثناء الفتنة يعلو الخبث - ألذي يأخذ اسم الزبد هنا كذلك فيغطي على المعدن الحقيقي، حتى إذا هدأت الأمور واستقرت كان الزبد قد نفي وحده وألقي بعيدا، ويظل المعدن الثمين يتحلى به الناس ويتزينون.
وتلتقي الصورتان في التعبير عن امر واحد هو الاشارة الى الفتنة التي يتعرض لها المؤمنون: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " (العنكبوت 2-3). في أثناء الابتلاء يكون الباطل هو المتنفش المتحرك الفوار، و الحق مغمورا تحت سطوة الباطل لا يظهر حتى إذا انتهت حكمة الابتلاء، و تميز الخبيث من الطيب، ذهب الخبيث بددا و بقي الطيبون في الارض.
ربط المثل بما قبله
يتميز هذا المثل عن غيره من امثال القرآن الكريم بأنه جاء مربوطا بما قبله فالآية السابقة كانت تتكلم عن ربوبية الله وقدرته "خالق كل شيء وهو الواحد القهار" فناسب أن تأتي الآية التي بعدها عن مظاهر قدرته فذكر المطر كما ذكر في مرات عديدة في القرآن الكريم للتأكيد على قدرة الله مثل :" الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ". ولكن بعد تدبر هذا المعنى نجد ان دليل القدرة يتحول ليكون مثلا لامتحان النفس البشرية بين الحق و الباطل.
نحتاج لهذا المثل اليوم كي نتدبر القاعدة الإلهية التي تشرح لنا أن الباطل مهما علا و تجبر فسيسقط و يزول و يظهر الحق. وسيطرة الطغيان والباطل جزء من عملية الامتحان المراد منها تمييز المؤمن من الكافر كما يتميز الذهب الصافي من شوائبه. فعلينا ألا نيأس من ضعف حالنا اليوم أمام قوى الظلام فهذه مرحلة علينا أن نتخطاها بصبر كي نكون في سلك المؤمنين.